مفهوم الوطن عند الشعراء
عند ذكر الوطن يتبادرللذهن الأرض، والمساحة، والامتداد المتنوّع من الشجر والجبال، والسهل، والماء، والصحراء، وكذلك الأهل والعشيرة، واللغة، والحضارة، والدين، والتاريخ، والانتماء إلى كل ذلك، هذا بالنسبة لنا، مجموعة من المشاعر الجياشة تنتاب القارئ لمجرد ذكر الوطن، أما بالنسبة للفنان بشكل عام والشاعر على وجه الخصوص فإن شعوراً وارتباطاً عاطفياً وجدانياً وحساساً يتدفق من أعماقه عبر فمه على هيئة كلام بليغ ذي لحنٍ ووقعٍ كبير على نفس المتلقي، ليقنع من خلال إحساسه المرهف أنّ الوطن يسكن قلبَ الشاعر أينما تنقّل.
وطن الشعراء في الحروب والانتكاسات
إنّ الشعر ومنذ نشأته كان ولا يزال منبراً إعلامياً يتأثر مع كلّ مستجد يمرّ بقبيلة الشاعر ووطنه، فيفرح لفرحها ويتغنّى بأمجادها ويفخر ببطولاتها وانتصاراتها، ويحمسها وقت الحرب ويشد من أزرها ويحزن لانتكاساتها، ولأنّ الشعر خفيف على السمع والحفظ فكان وسيلة لنقل تراث وثقافة حتى يومنا.
يقول الشاعر الشريف قتادة أبو عزيز بن إدريس في فترة الخلافة العباسية:
بلادي وإن هانت علي عزيزة
- ولو أنني أعرى بها وأجوع
ولي كفٌ ضِرغامٌ أصولُ بِبَطشها
- وأشري بها بين الورى وأبيع
كان إذا ما تعرّض وطنه لاستعمار أو ما شابه فإن جرحاً لديه لا ينضب يظلّ ينزف شعراً، يصف حالاً ويؤرّخ مرحلةً، ويؤرّخ عادات عشيرته وشعبه فتتناقلها الأجيال.
يقول الأديب والشاعر أمل دنقل في قصيدة "الأرض.. والجرح الذي لا ينفتح"، يصف الوطن في مرحلة الضعف والانتكاسة، وقد بان في شعره الحزن والأسى:
الأرض ما زالت، بأذنيها دم من قرطها المنزوع
قهقهة اللصوص تسوق هودجها..وتتركها بلا زاد
تشدّ أصابع العطش المميت عن الرمال
تضيع صرختها بحمحمة الخيول
الوطن في عيون الشاعر بالمهجر
كان الشاعر إذا ما ابتعد عن وطنه ذرف شوقاً وحنيناً فياضاً لا ينقطع، كارتباطٍ استثنائي وعلاقة انتماء روحية كطفلٍ يستجدي اُمه، وكان ينسج القصائد ويغزلها كولهان ينتظر محبوبته، ونجد هنا كيف بكى الشاعر الأندلسي ابن الأبار القضاعي وطنَه بقصيدة أكثر فيها من التأوُّهِ, ومن ترويع الفراق، ومن عبرات البعد يقول:
أَبَيْنٌ واشتياقٌ وارتياعُ؟
- لقد حُمِّلتَ ما لا يُستَطاعُ
تملّكني الهوى فأطعتُ قسراً
- ألاَ إنّ الهوى ملِكٌ مطاعُ
وروَّعني الفراقُ على احتمالي
- ومَن ذا بالتفرُّق لا يُراعُ؟
وليس هوى الأحبة غَير عِلقٍ
- لديَّ فلا يُعارُ ولا يُباعُ
فَلِلعبَراتِ بَعدهمُ انحدارٌ
- وللزفَرَات إثرَهُمُ ارتفاعُ
نأَوْا حقاً ولا أدري أيُقضَى
- تلاقٍ؟ أو يُباح لنا اجتماعُ؟
كذلك عندما رأَى الشاعر الأموي عبدُ الرحمن الداخل وهو بالأندلس نخلةً برصافته أثارتْ فيه هذه النخلةُ شجونَه، فرآها شبيهةً به؛ فكِلاهما غريبٌ عن وطنه، فقال:
تبدَّت لنا وَسْطَ الرّصافة نخلةٌ
- تناءتْ بأرضِ الغَرب عن بلدِ النخْلِ
فقلت: شبيهي في التغرّبِ والنّوَى
- وطولِ اكتئابي عن بنيَّ وعن أهلِيْ
نشأتِ بأرضٍ أنتِ فيها غريبةٌ
- فمثلكِ في الإقصاء والمُنتأَى مِثليْ
سقتكِ غواديْ المُزْنِ في المنتأى الّذي
- يسحُّ ويَستمرِيْ السِّماكَينِ بالوَبْلِ
إنّ مفهوم الوطن عند الشعراء هو انتماء وترابط عاطفي لا ينقطع، حتى في الوقت الذي لم يستطع المثقف الشاعر أن يحمل سيفاً ومنذ ما قبل العصر الجاهلي، كان يحمل قلماً ولساناً بليغاً يحقّق ما لم يكن السيف يحقّقه من نقل الفكرة للأجيال لنشر فكرٍ وثقافة رسخت على مرّ السنين.
يقول الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان عن بلده التي رفض أن يقف بعد احتلال الغزاه لها إلا شاهراً قلمه يعبّر عن افتداء بلده بروحه:
كلما حاربت من أجلك..أحببتك أكثر
أيّ ترب غير هذا الترب..من مسك وعنبر
أيّ أفق غير هذا الأفق..في الدنيا معطّر
كلّما دافعت عن أرضك..عود العمر يخضّر